أنا الموقع أعلاه
يقول صديقي الحكواتي:
(دعوني أقول لكم، لقد علمتني الحياة أن أكون حيا)
وأسأله (وماذا أيضا؟) فيقول
(وعلمني التاريخ أن أكون إنسانا، وعلمتني الطبيعة أن أكون شاعرا، وعلمني الجمال أن أكون عاشقا، وعلمتني الحرية أن أكون متمردا، وعلمتني المسافات أن أكون مسافرا، وعلمتني الحروف أن أكون قارئا، وعلمتني الطيور أن أكون محلقا، وعلمتني المشاهد أن أكون مشاهدا وشهيدا، وعلمتني الأيام أن أكون معيدا، وعلمتني الأعراس أن أكون عريس) (1)
هكذا تحدث ذلك الذي يشبهني وأشبهه، والذي هو لحظة من لحظات الأبدية، والذي هو مجرد اسم من الأسماء في ديوان الإنسانية، والذي هو دفقة وجود وفورة حياة، وذلك في مسارات الحياة وفي خضم الحيوية.
إنني أنا الإنسان المدني، لا أعتز بشيء أكثر من اعتزازي بآدميتي وبإنسانيتي وبمدنيتي وبهويتي المختلفة والمخالفة، وفي هذه الإنسانية أنحاز دائما إلى مواطنتي الكائنة والممكنة والمستحيلة، مواطنتي المسموعة حينا، والمقموعة الأنفاس والصوت أحيانا أخرى، إنني أنحاز إليها، لأنها معطى وجودي أولا، ولأنها مكتسب اجتماعي وسياسي في نفس الآن، وإنني أنتسب لها، وأصر على أن أحسب عليها، وعلى أن يكون ذلك في الحقيقة والواقع معا، وليس فقط في الأوراق الإدارية الملونة، أو في الإحصائيات الرسمية دون سواها، أو في التقارير السرية للسادة المخبرين.
ومن روح إنسانيتي هذه، ومن وحيها أيضا، تعلمت أشياء كثيرة جدا، تعلمت أن أكون كائنا محاورا، وأن أكون فاعلا ومنفعلا، وأن أكون متكلما ومستمعا، وأن أكون كاتبا وقارئا، وأن أكون مشاغبا ومشاكسا، وأن أكون سائلا ومجيبا، وأن أكون مسافر ومقيما، وأن أكون مفكرا ومعبرا، ولقد رأيت أن الأصل في الوجود هو الحوار، فالليل يحاور النهار، والبياض يحاور السواد، والأرض تحاور السماء، والتربة تحاور الماء، والظلال تحاور الأضواء، والأسماء تحاور الأشياء، ولقد أكدت دائما، سواء في تنظيراتي أو في إبداعاتي المسرحية، على أن هذا الحوار ضرورة وجودية أولا، وذلك قبل أن يكون ضرورة اجتماعية أو فكرية، وأكدت على أن هذا الحوار الوجودي المتعدد الأصوات، يمكن أن يتم بكل اللغات الكائنة والممكنة.
إنني أعشق فعل الحوار إذن، في كل أبعاده ومسافاته وبكل درجاته ولغاته، أعشقه لذاته أولا، ولأنه اعتراف بالحق في التعدد ثانيا، ولأنه اعتراف بوجود الآخر الموجود هنا وهناك ثالثا، ولأنه أيضا، إقرار ضمني بالحق في الاختلاف الخلاق، وأن يكون لهذا الاختلاف أبعاده اللغوية والثقافية والدينية والجمالية والأخلاقية المتعددة والمتنوعة، وفي المقابل، فإنني أهرب من الانعزالية الفكرية المريضة، وأهرب من الإيديولوجية المحنطة والمتكلسة، وأراها مرضا وجوديا، قاتلا ومدمرا، سواء للأفراد أو للجماعات أو للمجتمعات المختلفة، وهي بهذا مناجاة لا تقول شيئا، ولا تضيف شيئا، مناجاة صماء وخرساء اللذات الفردية أو الجماعية المنغلقة على نفسها، والمكتفية بقناعاتها واختياراتها و(بعلمها) وفهمها، وربما.. لأجل هذا استهواني المسرح، لأنه عالم ما خلف الواقع والوقائع، ولأنه حوار بالكلمات والعبارات وبالإشارات وبالإيماءات الدالة والمعبرة، وهو حوار مدني إنساني حيوي يتم في اللحظة ـ الآن، وذلك بين الأجساد والأرواح الإنسانية والمدنية الحية، وهو حوار حقيقي بأصوات حقيقية متعددة ومتنوعة، والأساس في هذا المسرح ـ الإنساني والمدني والحيوي ـ أنه فضاء ديمقراطي مفتوح عن آخره، وفيه تتجادل الأفكار تحت الأضواء الكاشفة، وتتوجه أمام أعين المشاهدين والمراقبين والشهود الأحياء.
وفي هذا الحوار المسرحي تحضر العلاقة دائما، وتصبح لها أهمية أكبر وأخطر من أهمية وخطورة هذه الشخصيات أو تلك، ونعرف أن العلاقات الجميلة هي التي تصنع الحالات الجميلة عادة، وهي نفسها التي تؤسس الشخصيات النبيلة والبديعة، وهي التي تشكل المواقف الحقيقية والسليمة، وبحثا عن تحقيق هذه العلاقات الممكنة الوجود، فإن الأمر يحتاج إلى ثورة ثقافية وجمالية وأخلاقية جديدة ومتجددة، ويحتاج إلى الارتقاء بالعلاقات الإنسانية إلى درجاتها العليا الحقيقية، أي إلى درجة الحق والحقيقة، وإلى درجة الجمال والاكتمال، وللوصول إلى هذه الغايات الممكنة، فقد أبدع الكتاب المسرحيون صورا ومشاهد حية وصادقة، وكان ذلك سعيا لإيجاد مجتمعات افتراضية جديدة ومتجددة، مجتمعات أكثر حقيقة وأكثر جمالا وأكثر نظاما وأكثر عدلا وأكثر تجانسا وأكثر انسجاما وأكثر حياة وحيوية وأكثر عقلانية..
ولكن هذا الحوار، قد ينقلب أحيانا إلى مجرد جدل لفظي عقيم، ويكون ذلك الجدل جدلا سفسطائيا أو بيزنطيا أو سياسويا أو حزبويا أو فوضويا، ويكون بذلك ثرثرة لفظية بلا معنى، وقد يحدث في كثير من الأحيان، أن يحيد هذا الجدل عن مساره الحقيقي، وبدل أن يكون جدلا بالتي هي أحسن، فإنه يصبح جدلا بالتي هي أسوأ، ويصبح تبادلا للسباب والشتائم، وكل ذلك تحت عنوان الجدل العلمي أو الجدل الفكري أو الجدل السياسي.
ثم أيضا، قد يحدث في أحيان كثيرة أن يضيع هذا الجدل الملتهب أهم شروط الحوار، والذي هو الهدوء النفسي والفكري أولا، وهو التكافؤ العقلي والفكري والنفسي ثانيا، أي التكافؤ بين حدود هذا الحوار وبين أقطابه المتعددة والمتنوعة، وبهذا، فقد سبق أن قلت يوما ـ في ذات مقالة نقدية كتبتها في السبعينيات من القرن الماضي ـ لقد قلت للذين سيقوا إلى مخاصمة تجربة فكرية وإبداعية لا يعرفونها، ولا يدركون حدودها، ولا يقدرون خطورتها الآنية والمستقبلية.. لقد قلت وكتبت معنى الكلمة التالية (إنني لا أتوقع حوارا جادا ومثمرا يمكن أن يكون بين أرسطو وبين أمي يطو،) وعلى امتداد أربعة عقود، لم أعش إلا هذا العبث أو ما يمكن أن يشبهه، ولقد كانت جل حواراتي من طينة هذا الحوار المستحيل، ولهذا لم يتمخض عن أية إضافات فكرية وجمالية حقيقية في الجانب الآخر، وكانت النتيجة أن هبت الرياح والعواصف والزوابع على كل ذلك الكلام الذي قيل في لحظة لغو، والذي كتب أغلبه بانفعال شديد وبمزاجية مرضية، وبأعصاب مشدودة عن آخرها..
إن غياب هذا التكافؤ إذن، هو الذي جعل كثيرا من الأقلام القصيرة النفس والرؤية لا تكون ف وضعها وموضعها، وهو الذي جعلها تجرب أن تكون أطول من قامتها، وأن تخوض في علم ليس علمها، وأن تدخل معركة خاسرة استمر ثلث قرن، لقد حاولت أن تخدع نفسها قبل أن تخدع الآخرين، ولعل هذا هو ما جعل كثيرا من الأسماء النكرة تحاول أن تعرف بالإضافة إلى غيرها من الأسماء، وأن تصعد على أكتاف الأسماء الكبيرة والسامية والعالية، وأن تفتعل قضايا وهمية وخيالية لا وجود لها، ولهذا، فهناك اليوم من لا يتوفر في رصيده الفكري والإبداعي إلا على شيء واحد أوحد، وهو مخاصمته لشخص اسمه برشيد، واعتراضه على منظومة فكرية وجمالية وأخلاقية تسمى الاحتفالية، وخارج هذه (الخصومة) المفتعلة فإنه لا وجود إلا للكلام الذي ليس له معنى.
ومن شروط الحوار الحقيقي أيضا، أن يحسن المتكلمون فن الاستماع أيضا، وأن يرتقوا بهذا الاستماع إلى درجة الإنصات الرصين، وعليه، فإنه لا يمكن أن نتوقع حوار ناجحا بين (الطرشان) أو بين متكلم مستمع وأطرش يتكلم ولا يسمع، ولهذا، فقد كان مساري الفكري والإبداعي ( مؤثثا) دائما بكثير من سوء الفهم أو من سوء التفاهم، وتلاحظون أنني قد استعملت كلمة (مؤثث) بدل استعمالي لكلمات أخرى من مثل (مفخخ) أو (ملغم) والتي قد لا تكون مطلوبة ومحمودة في مجال الكتابة الأدبية والفنية والفكرية والعلمية، ولكنها مع ذلك حقيقية.
ولقد كان من سوء حظي أنني قد اصطدمت دائما مع الذين لا يفقهون شيئا في فقه الحوار العلمي الرصين، ومع الذين لا يعرفون أي شيء عن أخلاقيات الحوار الفكري الخلاق، ومع الذين لا يعرفون تدبير الاختلاف الفكري بالأدوات المعرفية الحقيقية، وقد يكون هذا راجعا لكون كثير من الأسماء قد دخلت حقل الفعل الإبداعي والنقدي سهوا، أو دخلته خطأ، أو دخلته من باب المترجمات والمقتبسات والمختلسات، وبذلك فقد حضر في كثير من الكتابات المعايير المدرسية، القائمة أساسا على الإتباع، ولم تحضر الاجتهادات القائمة على أساس الخلق والإبداع والابتكار..
الهوامش:
1 ـ ع. برشيد الحكواتي الأخير ـ منشورات إيديسوفت ـ الدار البيضاء